[i]يومك يا ابن الرومي لغز محير، وأحلامك يا ضيعتي رموز غامضة… أحيا بين رمز ولغز."14
[i]ويزداد ابن الرومي الشاعر المنكمش الخائف على نفسه من العالم الخارجي
تشاؤما وتطيرا من الوجوه التي كان يجاورها في حيه الشعبي المتواضع: أشعب
المغفل الذي يتهمه ابن الرومي بالغيبة والنميمة ونقل الأخبار بين الناس
والتطفل عليهم وجحظة الحلاق الذي كان يزعجه بأغانيه المستهجنة ودعبل الأحدب
بائع العطور والمناديل الذي يعتبره وجه النحس والشقاء وعيسى البخيل
الإسكافي العجوز الذي كان يعتبره رمزا للشح والتقتير.كل هذه الوجوه الشقية
المنحوسة كان يتهرب منها الشاعر العالم، ويكره العالم لأنه لم يجد إلا بيتا
يطل على البؤساء والأشقياء والمعوقين والفقراء التعسين.لذا، أغلق بابه على
هؤلاء الناس ولم يتركه مفتوحا إلا للذين يغدقون عليه بالنعم والفضائل من
أمثال الممدوحين والأغنياء ورجال السلطة والأعيان خاصة رئيس المجلس البلدي.
ويقصد الشاعر بيت عمته الرباب باحثا عن جارية حسناء ترافقه في دهاليز
الحياة وتسليه في دروبها المظلمة الدكناء. ولم يجد سوى عريب الشاعرة
الجميلة التي دفع فيها كل ما اكتسبه من شعره ومدحه قصد الظفر بها عشيقة
وأنيسة تشاركه سواد الليالي ووحدته المملة القاتلة في كوخه الذي لا يسعد أي
إنسان ولاسيما أنه يجاور دكاكين الجيران المنحوسين الأشرار. مما جعله
يعاني من عقدة التطير والانطواء على الذات والهروب من بغداد المدينة
وعالمها الخارجي ليعيش حياته في أحضان عريب سلطانة الحسن والدلال بكل
حواسه:" وبعد هذا يا ضيوف المخايل وعشاق الخيال…
[i]سار الشاعر الحزين وعريب خلفه… سارا إلى حيث لا نور، لامسك، لا ريحان،
ولا وسائد، سارا إلى أكواخ الخشب والقصدير، إلى حيث النور شموع والفرش
حصير.
[i]وصل الشاعر، أغلق خلفه كل ثقب وباب، وأقام أزمانا في حضرة الجارية قيام أهل النسك في المحراب"15.
[i]وسيتحول ابن الرومي من شاعر مثقف إلى شاعر انتهازي متكسب لا يهمه سوى
الحصول على الأعطيات والمنح من رجال الجاه والسيادة والسلطة حيث سيشتري
رئيس المجلس البلدي ذمته بكتابة قصيدة شعرية يصور فيها بؤس الحي الصفيحي
الذي يعيش فيه مع أولائك المنحوسين الأشقياء قصد طردهم من هذا الحي وهدم
أكواخه التي يتعشش فيها الفقر والداء والبؤس والنحس قصد بناء فنادق سياحية
تجلب العملة الصعبة لحكام بغداد الأثرياء وأعوانهم:
[i]"الخادم يا زمان:.. المهم يا ابن الرومي أن المجلس البلدي قد اتخذ قرارا
بهدم هذا الحي… لا تنزعج على بيتك، سيكون لك ماهو أحسن، نعم، لقد فكروا
فيك جيدا. ستتحول هذه الأكواخ الحقيرة إلى مركب سياحي ضخم يأتيه السواح
الأغنياء من نيسابور وجرجان وفاس وصقلية. ستمطره ألوان من العملة الآتية من
أركاديا وفينيقيا وقرطاج، هل تعلم؟ إن المجلس البلدي لا يطلب منك شيئا
كثيرا. نعم، لاشيء غير أبيات من الشعر. أبيات تصور الحي الحقير وأهله. أنت
تؤمن بالشؤم، أليس كذلك؟ تؤمن بأن متاعبك آتية من هذه الأكواخ الوسخة. من
دعبل الأحدب، من جحظة المغني، من عيسى البخيل، من أشعب المغفل، من كل
الصعاليك والمشردين، هذه فرصتك يا ابن الرومي للتخلص- وإلى الأبد- من شؤم
هذا الحي ونحسه.."16.